هل انت راض عن نفسك ؟؟
--------------------------------------------------------------------------------
هذا السؤال يمثل أمامي مثول المدافع الضخم أمام مهاجم ماهر لكنه نحيل ، ولا يصمد طويلاً في مناكفة "الكتف القانوني" ولكني قدر المستطاع سأراوغ ثم سأسدد نحو المرمى بقدمي اليسرى ، لتمر الكرة بين قدميه!!
يبدو أنني هنا بحاجةٍ ماسة إلى الحديث عن "النفس" قبل الحديث عن الرضى عنها ، فماهي هذه النفس وما هي الأطر التي عبرها يمكن لي الرضى أو السخط عليها ؟
النفس – في تصوري- كينونة متمازجة من العقل والقلب ، أو الروح والجسد . الجسد شيء مادي ومحسوس يمكن الحكم عليه ببساطة ، كما يمكن تحسينه من نواحي عضوية صحية محدودة ، كما أن مطالبها محدودة أيضاً بين الأكل والشرب والجنس والنوم ، وفي هذه المطالب نحن لا نختلف عن باقي المنظومة الحيوانية التي خلقها الله ، بل إنّ أجساد النمور والسباع مثلاً هي أقوى بكثير من أجسادنا على تقلبات الزمن وإحتياجات البقاء في رحلة الصراع.
ونحن البشر قادرون على تحديد أعمار أجسادنا بأرقام معينة ومعروفة على مرور 12 شهر ، لكن وللأسف الشديد لا يمكننا تحديد أعمار عقولنا أو القوى العاقلة التي تقوم على "الروح" ، فالجسد يكبر ويضمر بالأكل والشرب ، لكن العقل الذي يقتات على ابتلاع المعلومة المفيدة واطراح ماعداها فليست كذلك ، أي أنه فلتر ليس أكثر ، وبعد ذلك لا يتوفر لنا لحد الآن معيار لقياس درجة النضوج العقلي والنفسي يمكنه إخبارنا بحالتنا ، ونحن في هذا الباب كمثل من يقود سيارة يظن أنّ بها "بنزين" كبير ، ولكنه لا يعرف بالتحديد كم هي الأميال التي يمكن لهذا الوقود أن يوصله ، فهو متوجس وقلق طوال الوقت ، وإن لم يقف ليملأ الخزان .
وعلى هذا الأساس فليس كل شخص عمره 40 سنة ، يُتوقع منه أن يكون عقله عقل شخص في الأربعين من حيث الكمال وحسن التدبير، وليس كل شخص عمره 20 سنة فإنه بالضرورة غر وطائش أو لا يحسن التدبير ، ومن هنا فإنني انظر إلى نفسي والناس على قاعدة التفرد التي تلغي السخف العريض القائم في "التنميط" ورذيلة التعميم المقيتة ، والتنميط في أمثلة للتبسيط : ان يقف كـهلٌ بين شبيبة في سمر ويقول" أنتم يا عيال الحفاظّة وحليب النيدو مدلعين وخكارية وجبناء" أو أن يأتي شخص لا تراه في المحل الذي رسمته بحذر في رأسك للمصاحبة والصداقة ، ثم يقول بناء على اعراضك عنه "هذا شخص متكبر وشايف نفسه" ويقعد لك كل مرصد!!
قاعدة التفرد التي أؤمن بها تتعارض مع " التنكيل بالذات " ووأد المهارات والتي يمارسها كثير من الفضلاء المتدينين مع ذواتهم ، وهذا التنكيل مرده – كما يفسرون- هو التواضع والخوف من العُجب حتى في أمور الدنيا ، ومن هنا يتضح لنا أن الجامع بين المتكبر والمتواضع أن كليها طالب "رفعة" ، وإن تعددت المشارب وتخالفت الطرق!!
وفي تصوري أنّ الرفعة هي تحقيقي أقصى الممكن والعيش بفاعلية ، وهذا الممكن يرزح تحت وطأة معارفي التي تملي علي أن الرب الذي جعلني فريداً في بصمات اليدين ، كما جعلني فريداً في شبكة عيني البؤبؤية ، كما جعلني فريداً في خارطتي الوارثية " Dna"، بكل تأكيد قد جعلني فريداً في أشياء أخرى - كالروحانيات- تنتظرني كي اكتشفها ، وليس الإكتشاف فحسب بل والعمل مركزاً بها وعليها ، ولهذا يقول الرئيس الأمريكي المغتال "أبراهام لنكولن" في معنى قريب من هذا لمن لا يعمل بما ماهو متاح له: ( الكتب هي تلك الأشياء المقروءة التي تخبر الرجل المفكر أن أفكاره ليست جديدة على الإطلاق ) وهو يعني أنّ التنظير و" المعرفة" مرحلة يراد بها العبور إلى مرحلة أخرى وليست مقصودة لذاتها ، ولهذا تجد الذي لا يستخدم عقله بفاعلية لا يستحق أن يسمى عاقلاً !!
عندما أنظر بهذا الشكل "المعتدل" لذاتي ولنفسي ، فإني سأحترمها وأقر لها بماهي عليه من تميز وموهبة ولا أقمعها ولا ابخسها حقها ، واعرف جيدا أن آية سورة النجم " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " في سياق الديانة وحسن الظن بالذات في العمل الأخروي ولهذا اختتمها الله بـ "اتقى" ، ومع ذلك تجد البعض الحافظ لكتاب الله يتحرج أن يؤم الناس بالصلاة في طرقات السفر تورعاً أن يكون هنا في المأمومين من هو أعلم منه ، لكنه لا يتحرج الصلاة خلف شخص عاميّ ربما لا يتقن قراءة السبع المثاني "الفاتحة" التي هي ركن من أركان الصلاة !!
إنني اعتقد جازما أن سوداوية النظرة للذات لن يجعل منها شيئاً نبيلاً في الدنيا ، إذ لا بد أن ننظر لها بإيجابية كالتشجيع الدؤوب ، ومكافئتها بما حققته في الماضي من صالحات ومطامح كي يكون ذلك حافزاً لها لتواصل في نفس الدرب وعدم امتهانها حتى لفظياً ، ولهذا جاء في الصحيحين عن أبي بكر مرفوعا " لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لقست نفسي" لقست أي غثّت ، جاء في شرح الإمام النووي أنه لا فرق لغوي بين خبثت ولقست ، لكن أراد أن يعلمهم الأدب في مخاطبة الذات واستخدام الألفاظ التي تليق بها ، وإنّك حين تعامل قريبك أو أي شخص يربطك به علاقة غير إختيارية ويكون إنسانا غير أمين ، على أنّه شخص محترم وفيه من خصال الخير الكثير ، فإنّه بكل تأكيد سيكون أمينا ومحترماً على الأقل معك !!
الرضى عن الذات ليست بالضرورة نابعة عن تحقيق الأهداف التي نضعها لأنفسنا بين الحين والحين ، إن تلك الأهداف ممكن جدا أن تكون محض أوهام وخرافات ، بل الرضى بتقبل الذات كما ركبها الله ومعرفة الماهية التي بها يتم تفجير مواهبها واستغلالها بالأمثل لتكون "مبدعة" ، وعندما سئل غازي القصيبي في مقابلة أجريت معه سؤالا مفاده : هل أنت بحجم الشاعر الكبير غازي القصيبي أم كنت تضخم نفسك بما اتيح لك من وسائل إعلامية؟ فأجاب ( الشيء الوحيد الذي أنا على يقين منه هو أنني رجل أعرف قدر مواهبي) !! نعم هذا ما أعنيه بالضبظ !
أن تؤمن بذاتك "الموهوبة" يعني في بعض تمدداته أن تفهم معنى " صنع الله الذي اتقن كل شيء" ، وأن تؤمن بذاتك الموهوبة يعني أن تحاول إتقان ما تزعمه بكل ما يمكنك من الوسائل أو تترك زعمك ، أن تؤمن بذاتك الموهوبة أي أن تمتثل لـ ( ولم أرى في عيوب الناس شيئاً // كنقص القادرين على التمام) ، والموهبة في حد ذاتها ليست شيئاً نادرا أو حكراً على أحد ، بل هي قوى ذاتية وضعها الله فيك ، تحملك على التأفف والنأي بذاتك عن أن تكون في مواطن الصغار والسوء أو الغوغائية والدهماء ، والذين إن أحسنوا فإنهم لا يحسنون أكثر مما يحسنه فأر وفأرة !!
قد شرحت هذا النظرة الإيجابية للذات لأحدهم وأنها -بالنسبة لي - مساهم بشكل كبير فيما فتح الله عليّ من التوفيق في بعض الشأن فقال : هذا من العاهات الحسنة ! فقلت له لا بل هي من اللعنات المحمودة !! هناك من عرفها ووجهها فنجح وبهر الناس ، وبعد ذلك آثارها عليه بادية وإن حاول إخفاءها وحجبها بساتر !! ألست ترى أيدي الفلاحين "خشنة" !! ألست ترى أيدي البناء ملأى بـ"البويه" !! ألست ترى أقدام لاعبي كرة القدم "مقوسة" !! ألم تقرأ ( ومهما تكن عند امرئ من خليقة .. ) ؟ كل هذا يدل على "احتواء" الذات ومهادنتها بدلاً عن إقصاءها وقمعها .
لكنني هنا أتكلم عن "الموهبة" التي تقود إلى "الإبداع" ، فليس كل موهوبٍ مبدع ، ولكن كل مبدعٍ فهو موهوب ، لأنهّ عرف كيف يدير نفسه ويظهر الكمال الإلهي في إنشائه وتكوينه ، ولهذا جاء الأمر القرآني في سورة الضحى " وأما بنعمة ربك فحدث" وهنا لا يستطيع أحد من الناس أن يقول أنّ هذا من الغرور والعجب المنهي عنه ، لأنه أمر رباني واضح وإن اختلفوا في كيفية التحدث واظهار النعمة ، وعندما تجاهلنا الذات ونظرنا لها نظرة السوء ، وجدنا أنفسنا في حرج شديد وكأنه طُلب منا استظهار رقم فلكي عندما يقال لنا في الوظائف المكتبية أو الأعمال الأخرى التي نتقدم لها وعليها : حدثنا عن نفسك ؟؟!!
حسنا ..
على شيء قريب مما تقدم ، أنا راضٍ عني نفسي ما حققته لي لحد الآن بعد آخر جلسة تقييم مارستها ، بل إنني استمد من رضاي الوقود اللازم للمضي قدما ، لأن الطموح لا يأتي إلا على ظهر الثقة بالذات ، والثقة لا تأتي إلا على ظهر الرضى عن الذات ، في مثل هذا جاء في البداية والنهاية عن الخليفة عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه أنه عندما ولي الخلافة صعد على المنبر وقال : ( أيها الناس، إن لي نفسا تواقة لا تعطى شيئا إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها وهي الجنة) ..