أسس الإرادة (2)
--------------------------------------------------------------------------------
أسس الإرادة (2)
لقد ذكرنا في المقال السابق هناك نمطين نستطيع تصنيف كافة أشكال استجابات وإرادة الكائنات الحية حسبهم , وتكلمنا عن النمط الأول وسوف نتكلم عن النمط الثاني .
فالنمط الثاني خاص بالكائنات الحية التي تعيش جماعات , فهذه تكيفت إرداتها واستجاباتها وتصرفاتها مع الأوضاع الاجتماعية الموجودة ضمنها , تسمح بالحوار والتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه الكائن الحي .
وفي مجال هذه الاستجابات والتصرفات الاجتماعية تكون المنبهات البيئية , وما تضيفه عليها تجارب الكائن الحي من معان اجتماعية , هي التي تقرر وتوجه منحى أرادة الكائن الحي . وتلعب الدور الأساسي في انبثاق السلوك الاجتماعي . ولا تكتسب المعلومات الحسية صفاتها الدافعة انطلاقاً من سلوكية غريزية موروثة , بل تكتسب من التكيفات الاجتماعية التي تعلمها من مجتمعه . مثال دافع الجوع يعدل ويكيف بطرق اجتماعية متعددة , وكذلك الدافع الجنسي , ودافع الأنانية , . .
وبالنسبة لنا نحن البشر يكون تأثير البيئة والحياة الاجتماعية , ثقافي , ونفسي , وفكري . فنحن نتاج مجتمع وثقافة وحضارة , أكثر من نتاج بيولوجي .
فتأثير الأفكار ( المعارف , والأخلاق , والعقائد , والإعلام ) هائل علينا , ونخضع لسلطة وإرادة البنيات الاجتماعية التي نعيش ضمنها . وإرادتنا مرطبة وتابعة لإرادة الآخرين , فتنتهي حريتنا وإرادتنا عندما تبدأ حرية وإرادة الآخرين . إن غالبية الذين يعيشون حياة اجتماعية إن لم يكن جميعهم , أرادتهم مقيدة وموجه بشكل كبير بطبيعة المجتمع والدولة التي يعيشون بها . يا ترى إلى أي مدى قدرات إرادتنا وفكرنا الحر تحدد مسار سير حياتنا ؟
إن العادات الاجتماعية والعقائد والأديان , والأنظمة والتشريعات والقوانين , تعمل على برمجة تصرفاتنا ( عن طريق برمجة الدماغ الحوفي لدينا ), بما يناسب الأوضاع الاجتماعية والثقافية والفكرية الموجودين ضمنها , ولهم الدور الأكبر في تقرير منحى إرادتنا وحريتنا , ويمكن أن يكونوا في كثير من الأحيان أقوى من المورث البيولوجي . فالقيود التي تفرضها الحياة الاجتماعية على إرادتنا أكبر بكثير مما نتصور .
والأفكار والعقائد والمبادئ التي يتبناها كل منا أوحى له الآخرين في مجتمعه , وصار ملزم بخدمتها وتنفيذ مضمونها حتى وإن تعارضت مع أقوى الدوافع البيولوجية مثل المحافظة على الذات , فهو يضحي بنفسه من أجل الأفكار التي تبناها , والوقائع الكثيرة تؤكد ذلك .
والملاحظ أن المؤثرين الأساسيين وموجهين لإرادة وتصرفات الناس هم :
1 - مالكي السلطة والنفوذ في المجتمع وهم الملوك والأمراء والقادة أمثال : الاسكندر ونابليون وهتلر وستالين والكثيرين غيرهم .
2 - المصلحين والأنبياء والمشرعين والمفكرين أمثال : حمورابي وهوميروس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وموسى وعيسى وبوذا و كونفوشيوس و زراتشت . . فهم الذين خلقوا الأفكار أكانت مبادئ أو عقائد أو معارف , وزرعوها في العقول , وجعلوا تابعيهم يتصرفون حسبها .
أن طرق ووسائل توجيه إرادة الأفراد والتحكم برغباتهم ودافعهم تستخدم الآن في كافة المجالات التجارية والسياسية والعقائدية . وهذه الطرق والوسائل أصبحت تملكها وتتحكم بها الدول والمؤسسات والشركات الكبيرة , فهي الآن تقوم بالتحكم بدوافع وإرادة الأفراد ووضع الأفكار والدوافع .... التي تريد .
وطرق توجيه إرادة الأفراد والتحكم بما يتبنون من أفكار وعقائد ومبادئ , تنجح بسهولة عندما تطبق على الشبان الصغار فالكبار غالباً يصعب جعلهم يعدلوا أو يغيروا مبادئهم وعقائدهم توجهاتهم , فهذا لا يمكن أن يتم بسهولة لدى الكبار, لقوة إرادتهم في المحافظة على ما يتبنون من أفكار وعقائد وقيم , وأن حدث فهو يحتاج إلى وقت طويل وتكون النتائج متواضعة . يمكن تقليل هذا الوقت باستعمال الكثير من الأساليب التي ثبتت صلاحيتها , مثل استخدام الأحاسيس النفسية والجسمية والمشاعر والعواطف القوية إن كانت مؤلمة أو مفرحة ولذيذة , واستعمال الإقناع الفكري , والترغيب والترهيب ولفترة طويلة , بشكل يتم التحكم بإرادتهم وتجبرهم على تغيير أفكارهم ومبادئهم وعقائدهم , ويمكن أن يتم ذلك الأفراد والجماعات دون أن يدروا أن ذلك جرى لهم , وهذا يتم عن طريق الإعلام بكافة أنواعه وأشكاله المسموعة والمقروءة والمرئية صحف ومجلات وكتب وإذاعات ومحطات تلفزيون ودور عبادة . . . وبواسطة أجهزة الإعلام بكافة أشكالها .
فالمتحكم الأكبر فينا الآن هو الأفكار المنتشرة في العقول وبالذات التي تنشرها وسائل الإعلام , فهي التي توحي لنا بالكثير من تصرفاتنا وتفرض علينا قوها وتأثيراتها , وبالتالي تفرض علينا غالبية استجاباتنا وتصرفاتنا وتتحكم بإرادتنا .
لقد مات في الحرب العالمية الثانية أكثر من 40 مليون إنسان , كم عدد الذين ماتوا منهم بإرادتهم ؟
هل يختار غالبية الناس عقائدهم أو دينهم بإرادتهم أم يرثونه من مجتمعهم ؟
يقول هربرت . أ . شيللر : تكتيكان يشكلان الوعي تستخدم الأساطير بكافة أشكالها القديمة والحديثة من أجل السيطرة على الأفراد , وعندما يتم إدخالهم على نحو غير محسوس في الوعي الجماعي , وهو ما يحدث بالفعل من خلال أجهزة الثقافة والإعلام , فإن قوة تأثيرها تتضاعف من حيث أن الأفراد يظلون غير واعين بأنه قد تم تضليلهم وتوجيه إرادتهم وخياراتهم .
ويقول جورج جيبرنر :إن بنية الثقافة الشعبية التي تربط عناصر الوجود بعضها ببعض , وتشكل الوعي العام بما هو كائن , بما هو هام , وهو حق , وما هو مرتبط بأي شيء آخر , هذه البنية أصبحت في الوقت الحاضر منتجاً يتم تصنيعه .
لقد قال أبو السلوكية واطسن : أعطوني عشرة أطفال , وأنا سوف أصنع منهم المحامي والعامل والمهندس والرياضي واللص والفاشل . . , نعم يمكنه أن يحقق ذلك إذا سمح له بذلك الموروث البيولوجي لهؤلاء الأطفال , واختار لكل طفل ما يناسبه من الأعمال والمهن . أي نحن نستطيع التحكم بواسطة الوسائل الكثيرة المتاحة لنا , بتوجهات وإرادة هؤلاء الأطفال .
الإرادة والتعامل مع الخيارات , جذب الخيارات
نفرض أن لدينا عدة خيارات متاحة لتحقيق هدف معين ونفرض أنها جميعها تسمح بتحقيق الهدف وبالصعوبة نفسها وبالدرجة نفسها تماماً- وهذا نادر جداً في الواقع-
في هذه الحالة هل يمارس تفضيل أثناء اختيار أحدها, إن هذا لن يحدث, لأنه لا يوجد فرق بين هذه الخيارات, وسوف يتم الاختيار عشوائياً.
لنفرض الآن أن هذه الخيارات مختلفة في درجة صعوبتها لتحقيق الهدف في هذه الحالة هل يحدث تفضيل واختيار موجه؟
نقول: نعم في هذه الحالة ستحدث مقارنة وتقييم ثم اختيار أحدها
أي سوف يحدث تنافس بين هذه الخيارات في جذب اتجاه اختيارنا نحو كل منها
والخيار الذي يقوم بأكبر جذب سوف يتم تبنيه وممارسته.
إذاً اختيار أحد الخيارات من بين مجموعة خيارات متاحة يكون حسب قوى الجذب التي يقوم بها هذا الخيار, ويكون تقييم قوى الجذب حسب الوضع الراهن لجسمنا وعقلنا وباقي العوامل الموجودة
وإذا تغير أحد هذه العوامل يمكن أن تتغير نتيجة الاختيار
وأي اختيار نقوم به مرة ثانية يمكن أن تكون نتيجته مختلفة إذا حدثت أية تغيرات لنا أو لتلك الخيارات
أي أن النتيجة المحددة بشكل مطلق لا تحدث إلا مرة واحدة , وعند التكرار تصبح احتمالية, وتابعة للتغيرات الحاصلة . فالإنسان دائماً في وضع يختار فيه. وهو في الواقع مجبر على الاختيار, لأن لديه معرفة بالبدائل- الإمكانات والاحتمالات- .
لا شيء يحول دون التفكير بأن حرية الاختيار موجودة لدينا وأن لنا إرادة , لأننا نستطيع أن نوجه أفعالنا عندما تسمح الظروف , بتنفيذ مجموعة أفعال معينة , من خلال لعبة إثارة للخلايا العصبية الملائمة.
الإرادة القوية والإرادة الضعيفة
يقولون أن النجاح بالدراسة أو بالأعمال أو بالمشاريع يلزمه قوة إرادة .
إن هذا لا يكفي فيجب توفر أيضاً البنيات التحتية الجسمية والفكرية والثقافية والظروف المادية والاجتماعية المناسبة لتحقيق هذا النجاح .
هل يستطيع مدمن التدخين أو مدمن الكحول أو مدمن المخدرات أو مدمن القمار . . . الخ التوقف عن إدمانه ؟
البعض يقول : أن هذا راجع لقوة إرادته فالذي قوة إرادته قوية يستطيع التوقف عن إدمانه والذي قوة إرادته ضعيفة لن يستطيع , ولكن إلى أي مدى تكون هذه القوة ؟
أنها طبعاً لها حدود , فإذا كانت قوة إدمانه كبيرة جداً كإدمان الهيروين مثلاً , فلن يستطيع مهما حاول , ويجب أن يتلقى مساعدة من الآخرين .
إلى أي مدى كانت قوة إرادة البوذي ( الفكرية) الذي شاهدناه منذ بضع سنين في التلفزيون , والذي أحرق نفسه احتجاجاً , وظل جالس وهو يحترق يقاوم ألم الاحتراق فترة طويلة ثم مال ووقع .
وهل يستطيع المتعبد الملتزم المداوم على ممارسة شعائر دينه أن يقوم بإرادته بالانقطاع عن ممارسة هذه الشعائر ؟ على الأغلب سوف يكون هذا صعب جداً عليه .
ما هي خصائص النفسية والجسمية والفكرية والثقافية للشخص القوي الإرادة , والشخص الضعيف الإرادة ؟
و ما هي عناصر وعوامل قوة أو ضعف الإرادة ؟
لقد نجحت بتفوق فتاة درست على ضوء الشمعة وفي ظروف صعبة , ورسب شاب أمّنت له كافة الظروف المريحة للدارسة . لقد كان الدافع القوي للفتاة هو الذي قوى إرادتها على بزل أقصى ما تستطيع من جهد وحققت النجاح والتفوق , بعكس الشاب فقد كان دافعه للدراسة ضعيف وكذلك قوة إرادته على الدراسة وبزل الجهد ضعيفة . إن لقوة الدافع تأثير أساسي على قوة الإرادة .
ونحن نلاحظ قوة أرادة الرياضي الذي يتمرن ألاف الساعات في سبيل تحقيق فوز في الألعاب الأولمبية , وقوة إرادة لاعبي فريق كرة القدم لتحقيق الفوز .
ما هي قوة إرادة المشرف على الغرق للسعي للنجاة , أو قوة أرادة الهارب من النار ؟
هي حتماً في قمة القوة .
إن للمكافـأة والعقوبة تأثير كبير على إرادة الأشخاص . إن كافة أشكال التعلم تعتمد على المكافأة والعقاب من أجل توجيه المتعلم والتحكم بإرادته . فالطفل نريبه ونوجهه ونعلمه بالاعتماد على المكافأة والعقاب , ربما نستخدم المكافأة أكثر , ولكن لابد من استخدام العقاب .
كانوا سابقاُ يقولون : إعمال صالحاً تذهب إلى الجنة وتكافأ , وعمل شراً تذهب إلى النار وتعاقب . " وأنت حر في اختيارك " أي كف عن التصرفات التي تضر بك أو بالأفراد الآخرين أو بالمجتمع وعمل ما يفيد , ولكن ظهر أن هذا لا يكفي .
فالآن هناك الأنظمة والقوانين والعقوبات التي تفرض على إرادتنا عمل ما يفيدك ويدعم المجتمع , أي المطلوب فعله والمسموح به , و تحاشى الممنوع . و بذلك يوجهون ويتحكمون بإرادتنا .
إرادة البنيات
هل للجماعات والدول والشركات والمؤسسات . . إرادة ؟
كانت الجماعات تعتمد توحيد أرادات أفرادها وتقويتها عندما يكون الوضع بحاجة ليعمل الكل في سبيل تحققي الحاجات الأساسية والضرورية للجماعة , كتأمين الطعام والمأوى والدفاع عن الجماعة وعن ممتلكاتها , وكانت العادات والتقاليد والأخلاق تدعم ذلك . وكما ذكرنا كان يتم التحكم وتوجيه إرادة الأفراد وكذلك الجماعات بالعقوبة والمكافأة .
بعد أن يقوم الأفراد بتكون الشركات أو المصانع أو المؤسسات أو الأحزاب أو الدولة , الملاحظ أنه تتكون لهذه البنيات التي أنشؤوها ما يشبه الإرادة , فهي تسعى للحفاظ على نفسها واسمرارها ونموها . وفي كثير من الأحيان تصبح إرادة هذه البنيات أقوى من إرادة الأفراد الذين أنشؤوها , وتفرض إرادتها عليهم , ويمكن أن يضحوا حتى بأنفسهم في سبيلها . وهناك الكثير من الدلائل والوقائع التي تؤكد ذلك .
والآن تطورت الأمور وتعقدت , وصار كل شيء منظم ومدروس وله تشريعاته وقوانينه . وأصبحت الأمور كبيرة وواسعة , على شكل مشاريع يجري دراستها والتخطيط لها , ودراسة تكاليفها وجدواها, وعند تنفيذها لا يكون لتأثير إرادة العاملين فيها كبير وحاسم , فكل شيء مدروس احتمالاته وبدائله . وهناك مدراء أو مجلس إدارة هو المسؤول .
السلطة والإرادة
كلما كبرت وتوسعت سلطة الفرد أو كبرت ثروة الفرد , أو الجماعة , توسعت مجالات إرادتهم , فامتلاك المال هو شكل من امتلاك السلطة فالمال هو بمثابة سلطة . و هذا أدى للسعي المحموم للأفراد وللجماعات لامتلاك السلطة أو المال , وبشكل غير محدود , وبالتالي الصراع الدموي على امتلاك السلطة أو المال . وأصبح الصراع على امتلاك السلطة أو المال هو صراع الإرادات .
فبواسطة السلطة أو المال نفرض إرادتنا على الآخرين . وفرض الإرادة الذاتية على الآخرين والتحكم بإرادتهم وتوجيهها هو أهم الدوافع والغايات لدى الكثير من الناس .
وأدى الصراع الهائل على السلطة , إلى نشوء أفراد أو جماعات أو دول سلطتها كبيرة وتتزايد باستمرار . وهذا له نتائجه الوخيمة على أكثر من مجال . وهنا نجد أن أهمية توزيع السلطات وعدم جعل فرد واحد أو جماعة معينة واحدة امتلاكها , الوقوف في وجه هذه ومنعه , وجعل السلطة موزعة على بنيات عديدة ولا تملكها أو تسيطر عليها بنية واحدة .
فنحن نلاحظ أن العمليات الأساسية والهامة جداً بالنسبة للكائنات الحية و لدى الإنسان , مثل عمل القلب والهضم والتنفس . . لا تخضع لسيطرته وإرادته التي يمكن أن تكون متقلبة وتضربه , فلا يستطيع أي إنسان إيقاف نبض قلبه , أو إيقاف تنفسه بقصد الانتحار .
وكذلك يجب أن تكون العمليات والقضايا الأساسية والهامة لدى الجماعة أو الدولة , غير خاضعة لمشيئة أحد , بل هي معتمدة ومقررة سابقاً نتيجة ثبوت ضرورة التقيد بها حفظاً على الجماعة واستمرارها ونموها . وهذه تكون ممثلة في الدولة الآن بالدستور